معركة بين الأنصار تأتي على الأخضر واليابس. فالشغب في الملاعب الرياضية موجود حتى في الدول الراقية، لكن شتّان ما بين الصورة التي تظهر على ملاعبنا الجزائرية والصورة هناك. فالقصة هنا لا تتوقف على عملية التراشق بقنينات الماء وتحطيم الكراسي داخل الملاعب، أو بهتافات منددة بهذا الفريق أو ذاك.
فخارج أسوار الملاعب العالية مشهد قد لا يتخيله المرء إلا في ساحات الشغب والتخريب وإتلاف الممتلكات العامة... وكل ما تطاله الأيدي والأنظار مهيأ للتكسير والتحطيم. فالمتعصب يصل إلى الملعب ملتحفاً علم فريقه، مدمراً وجهه بطلاء الألوان الحارقة، مطلقاً العنان لحنجرته المبحوحة، مسلحاً بأدوات مقعقعة وكيس من الشتائم، ويتحول المتعصب حين ينسل بين قطيع يشبهه من المُهان إلى المهين، يخرج حقداً دفيناً لشتى أنواع الثأر في يوم واحد.
فكرة القدم نموذج لقياس حالة الإحباط الجمعي العام، لحجم الكبت وتعتبر واحدة من أدوات التنفيس الكبرى والعلاج الأسبوعي للاحتقانات الاجتماعية.
وما يحدث في بعض الملاعب الجزائرية يؤكد بالواضح أن الكل معني بأعمال الشغب التي عادت للظهور من جديد وبثوب دموي عنيف. فحينما تتحول ملاعب كرة القدم الجزائرية إلى ساحات ردح وشتم وقتل وانحطاط أخلاقي، فعلينا أن نلعن تلك اللعبة ومن بدعها، وأن نركل تلك الكرة بأرجلنا وأحذيتنا إلى مزابل التاريخ لأنها لم تعلمنا الأدب ولم تسم بسلوكياتنا حتى نجبر العالم على احترامنا وتقديرنا.
لقد تطورت خلال السنوات الأخيرة بشكل لافت ظاهرة التعصب الرياضي والتعلق بالأندية الكروية بين عامة الناس وخاصتهم. وأدى تفاقم هذه الظاهرة إلى تداعيات كثيرة عايشها البعض منا أو سمع عنها فيما يروى أو يكتب في الصحف، فكم من صديق خاصم خله بسبب الكرة، وكم من زوج ساءت علاقته مع شريكة حياته، لأنها ''خارج تغطية كرة القدم!''، وحتى الأطفال الصغار أصابتهم عدوى التعصب الرياضي! كما أن لمتابعة المباريات والاهتمام بأخبار الفرق الرياضية الأجنبية والجزائرية النصيب الأوفر من وقت هؤلاء على حساب تحصيلهم العلمي والدراسي.
وحين نعدد الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة نجدها كثيرة ومتشعبة، بدءاً من التعلق الفطري بالمنافسة بين البشر وحب الفوز والتغلب الذي أذكته وسائل الإعلام الرياضية بمختلف أصنافها من صحف مكتوبة أو قنوات متلفزة، وانتهاءً بالحملات الكبرى التي تقوم بها الهيئات الرسمية والجمعيات المعنية بالترقية الرياضية لحمل الناس على التشجيع والحضور للملاعب، وهذه الحملات وإن كانت تهدف في الأصل لتنمية الحس الرياضي والشعور بالوطنية، إلا أن لها مضاعفات قد تتسبب في انحرافها عن مقاصدها وتأجيج مشاعر الكراهية والتنافس غير الشريف بين محبي الكرة.
ومؤخراً انتبه بعض أصحاب المحال التجارية والمقاهي إلى أن هذه الظاهرة قد يستفاد منها في استقطاب الزبائن من هواة الكرة والتشجيع، وأصبحت أغلب المقاهي والمطاعم والكوفي شوب توفر شاشات عملاقة لنقل أحدث وأهم اللقاءات الكروية والبطولات الجزائرية والعالمية مقابل دفع الزبون لمبلغ محدد.
فالتعلق المفرط بالأندية الرياضية وتشجيعها لا يقتصر على الأطفال وصغار السن، ممن قد يكون لقصور وعيهم دور في تأصيل الظاهرة بينهم، بل يسري على الكبار كذلك، وحتى أرباب الأسر والآباء وكبار السن من بينهم من تعلق كثيراً بالكرة على حساب الواجبات الأخرى المتعلقة به كرعاية الأبناء وأمور البيت الأخرى.
ولا يجب أن ننسى حين طرح أسباب ظاهرة الشغب والتعصب الرياضي، ما يتبادله محبو الفرق الجزائرية من تهديدات وتراشق كلامي قبيل المباريات على الشبكة العنكبوتية، في المنتديات الرياضية، والمواقع الالكترونية، التي تتحول إلى حروب كلامية، بأناشيد حربية أكثر منها رياضية. وهنا يجب استحضار دور الجمعيات، التي تدعي حب وصداقة وعشق الفرق في عجزها عن محاربة هذه الظاهرة، بل هناك جمعيات تساهم بشكل أو آخر في إذكاء العداء بين محبي الفرق، من خلال المواقع الالكترونية، ويرجع ذلك لتخلف وعي من يقودها، إذ عادة ما يترأسها أشخاص أميون.
فالبعض يحمّل التلفزيونات والقنوات الفضائية المسؤولية عن تفشي التعصب الرياضي بين أفراد المجتمع الجزائري، معتبراً أن تركيزها على نقل المباريات المثيرة وطريقة التعليق الحماسية والتهويل من الإنجازات الكروية والبطولات العالمية جعلت من هذه الأندية وأخبارها هماً من هموم الناس اليومية، التي لا تقل في شيء عن الأخبار السياسية والحروب المستعرة في أصقاع العالم.
فالتركيز على الرياضة حوّل اهتمام البعض عن القضايا الأكثر أهمية وعلق قلوب الناس بالكرة والفريق الفلاني واللاعب العلاني، بينما نجد من بيننا من لا يعلم بالهجمات التي يتعرض لها الأقصى مثلاً، ولم يسمع عن المجاعة التي يتعرض لها إخوتنا في الصومال.
فلا يمكن تصور هذا الجنون الإعلامي الذي حول الرياضة من أداة تسلية ولعبة عادية إلى هم يتعلق به الكبير والصغير، وأصبحت القنوات المتخصصة تبث ليل نهار البطولات العالمية وأخبار الأندية العالمية واللاعبين التي بدورها صارت الحديث اليومي الذي تتداوله الألسن في المقاهي والإدارات والمدارس والمحلات التجارية الجزائرية...
وللأسف الشديد فبعض وسائل الإعلام الجزائرية تتحمل الوزر الكبير في ما آلت إليه بعض الملاعب الجزائرية من شغب وعنف وقتل. فبعض الصحف والقنوات الإعلامية، تُحوّل المباريات إلى ساحة معركة، تشحن فيها عواطف الجماهير وتحولها من مجرد مباراة رياضية إلى قضية انتماء وهوية تستحق القتال والدفاع عنها بشراسة، وتسمح للأقلام الفاقدة للضمير والوعي أن تؤجج مشاعر كل متفرج بالداخل والخارج، وكأن تشجيع الفريق واجب وطني لا يعلو فوقه أي واجب آخر، ونسي أو تناسى هذا الإعلام المضلل أن (الكرة) ما هي إلا رياضة من حق كل إنسان أن يشجع الفريق الذي يراه لاعباً أفضل في الساحة دون أن يكون لأحد حق التشكيك في انتمائه ووطنيته...
فهل يحق التشكيك في انتمائي ووطنيتي وحبي لبلدي لو شجعت فريقاً يلعب كرة حديثة وراقية...؟ ولكن لأننا في زمن ضياع الهوية وطمس الانتماء واختلاط المفاهيم والأوراق... باتت (الكرة) هي عنوان الهوية ودليل للانتماء... وأخشى أن يأتي يوماً يُسأل فيه كل عربي عن انتمائه الكروي!!
فخطاب التسميم الإعلامي خطير جداً، حيث يستهدف قطع العلائق مع منظومة القيم والمبادىء الأخلاقية التي استقرت في الوجدان الجزائري حيناً من الدهر، ويترتب على استمرار هذا الخطاب وتواصل حلقاته أنه يحدث تأثيره السلبي في بعض شرائح المجتمع الجزائري، والمنتمون إلى تلك الشرائح هم ''نماذج للمتفرجين الجدد''.
وللأسف فبعض وسائل الإعلام الجزائرية تجرم في حق الجماهير الجزائرية، حين تلبس المباريات لباس الوطنية، لكي تلبي أشواق الجمهور الجزائري بشكل مبتذل ومحزن، ولم تُستدعَ هذه الوطنية لكي تستنهض همة المتفرج الجزائري في الدفاع عن حريته وكرامته وشرف وطنه، وحقه في مقاومة الفساد.
فللأسف فبعض المحسوبين على الصحافة الرياضية الجزائرية، ممن يعيشون في عالم المرايا، ولا يرون إلا أنفسهم فقط، يتحملون المسؤولية فيما يقع من عنف وتعصب في المباريات، فهم يطعمون النار بالقش والزيت، ويصورون المباريات وكأنها معارك حربية، ويعمد جنرالات الردح التلفزيوني إلى دغدغة المشاعر الوطنية لدى الجمهور الجزائري بأسلوب فج تتويجاً للانقلاب على منظومة القيم الأخلاقية. وفي عصر التناحر الفضائي، رأينا ''عامة تقود عامة''. وفي سياق المهاترات الإعلامية، تسود أوهام الجهالة والولاء للغرض، ويختلط الجد بالهزل والرسالة بالهوى والأخلاق بالانحلال.
فظاهرة الشغب والتعصب في الملاعب الجزائرية تعكس مدى الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشارع، من هنا ركز علماء النفس والاجتماع وخبراء الضبط الاجتماعي على هذه الظاهرة بوصفها كإحدى الظواهر النفسية والاجتماعية التي ما زالت تحظى بالبحث والدراسة للتعرف على أسبابها التي تختلف من بيئة إلى أخرى، وتعتبر التربية الرياضية أساساً في مجالات الحياة العامة وتشكل بيئة خصبة ومتنفساً طبيعياً للعديد من أنماط السلوك الإنساني على مختلف مظاهره.
وتتوضح مظاهر هذا السلوك، كما تتباين درجاته لدى جميع المشاركين فيه، بخاصة في مجالات الرياضة التنافسية لارتباطها بعوامل الفوز والهزيمة، وما يترتب عنها من أمور تنعكس آثارها على المشاركين فيها سواء بشكل مباشر كـ''اللاعبين والرياضيين والممارسين والحكام'' أو بشكل غير مباشر كـ''المدربين والإداريين والإعلاميين'' فضلاً عن المشاهدين سواء من المنافسين أو المؤيدين.
ويحدد علماء الاجتماع العلاقة التي تربط بين هؤلاء جميعاً في مصطلح يطلق عليه إسم ''العلاقة الوقتية'' ويشيرون في دراساتهم التحليلية لهذه الظاهرة إلى أن التفاعل بين كل من الفعل الاجتماعي، الذي يصدر من شخص ما أو أشخاص آخرين، ورد الفعل الذي يستتبعه ويصدر عن شخص أو أشخاص داخل تلك ''العلاقة'' هي السمة الرئيسية التي تتحكم بأطر تلك العلاقة.
ويعد هذا المصطلح في واقع الأمر تحليلاً علمياً موجزاً ودقيقاً لما يحدث في محيط الرياضة التنافسية، حيث يبدأ بسلوك معين يصدر عن فرد أو جماعة يستتبعه تفاعل الآخرين معه وفقاً لردود أفعالهم المختلفة سواء كانت إيجابية أم سلبية، وقد يحصل أن يكون ''الآخرون'' بمثابة الحافز لثورة الغضب والهيجان، إلا أن الحالة العامة تنسحب على الجميع.
واللافت أن المظاهر كلها تتنافى مع أهداف الرياضة والتربية الرياضية بخاصة مع ردود فعل الجمهور، مما يزيد الموقف سوءاً.
فالجمهور ينفعل بقرارات الحكام، وتصرفات اللاعبين وتبدأ مقدمات الشغب كالخوف والغضب والاعتراض والذهول أو الشرود مروراً بحالات التشنج والإغماء، وصولاً إلى الوفاة بالسكتة القلبية إذا ما شعر الجمهور أن فريقه مهدد بالفشل أو من تحقيق النصر على المنافسين. وقد يزداد الانفعال حدة، فتندلع تظاهرات الغضب كتعبير عن فيض الحماسة وتبدأ أعمال التراشق بقنينات الماء والعصير وتحطيم المدرجات وإطلاق الشعارات المختلفة وتبادل العنف.
وتشير الدراسات إلى أن جمهور الملاعب أو ما يعرف بالحشد غالباً ما يكون محدود التفكير والمنطق مقارنة مع الفرد المنعزل، واللافت أن هذا السلوك العدائي واللاأخلاقي ينتشر بسرعة بين الحشد على طريقة العدوى مما يساعد على ارتكاب الأفعال التدميرية، والتي غالباً ما لا يرتكبها الفرد بمفرده.
في المقابل قد تنفجر الجماهير ابتهاجاً بالفوز أو حزناً على الهزيمة في المباريات الرياضية ويبدأ التخريب المتعمد للممتلكات العامة والخاصة وهذا ما يفسره علماء الاجتماع بنظرية ''اختفاء الفرد في الجماعة وحجبها له''، وهي ترتبط بسلوك الحشد أو الجماهير في إطار العلاقة الوقتية التي لا تتحكم فيها أية قاعدة أو قانون.
وبحسب تلك النظرية فإن الأفراد عندما يرتكبون بمفردهم أفعالاً يعاقب عليها القانون، فمن الطبيعي معاقبتهم على ذلك، أما عندما يمثلون جزءاً من جماعة تؤدي السلوك عينه فإنهم يتحررون جزئياً من الخوف من العقاب لأن الجماعة تغمرهم وتضمهم فيصعب تحديد المسؤولية الفردية بدقة، ومن ثم يصعب التوصل إليهم.
وفي الختام أقول إن ما يحدث في الملاعب الجزائرية من شغب يعبر عن ثقافة وسلوك مفتعلين الشغب والمشجعين بالدرجة الأولى، ولكن يبقى جزء من الحقيقة بأن هذا الشغب أيضاً يعد انعكاساً للواقع الاجتماعي وأحداثه التي يعيشها المواطن كل يوم، حيث إن ذلك يؤثر على شريحة الشباب التي تستمد أخلاقياتها وسلوكياتها من سلبيات تلك الثقافة ومن الثقافات المستوردة إعلامياً، لذا لا شك بأنّ هذا العنف سينتقل بدوره إلى الملاعب والمدرجات.
ولكن يمكن ضبط تلك الظاهرة والحد من سلوكيات مرتكبيها وذلك باتباع الأساليب التربوية وزيادة فعالية وسائل الضبط الاجتماعي والوسائل التربوية المتعددة والضرب على يد المشاغبين وتفعيل دور الأمن والقانون، واضطلاع كل مؤسسة بدورها ومراعاة الجدية التامة في النقد والتحليل الرياضي والتعليق وأن تلعب وسائل الإعلام دورها البناء والإيجابي في المجتمع الرياضي بلا تحيز أو تمييز، فضلا عن بث القيم والتقاليد الدينية والخلقية بين النشء والشباب حتى يتمكن المجتمع من ضبط سلوكياتهم بما يتواءم مع سلوكيات الجماعة والمجتمع ذاته.
ورغم كل ما تقدم نقول إنّ الشغب الجماهيري في الملاعب الجزائرية من أخطر الأمراض الفتاكة في جسم الرياضة الجميل، ومتى ما ترك هذا المرض يستشري في هذا الجسم فإنه سيهلكه يوماً ما، لذا فإنّ على جميع المسؤولين ذوي العلاقة ومحبي الرياضة والرياضيين أن يدركوا حجم هذه الظاهرة ويتعرفوا على أسبابها ويتخذوا الإجراءات العاجلة وطويلة الأمد في سبيل علاجها.