وقد قيل: ذنب بعد توبة أقبح من سبعين ذنبًا قبلها؛ لأنّ الرّجوع إلى المعصية يدلّ على محبّة القلب لها، نعوذ بالله من الخذلان وسوء الأعمال.
من علامات قبول العمل الحسنة بعد الحسنة، إتيان المسلمين بعد رمضان بالطّاعات والقُربات والمحافظة عليها دليل على رِضَى الله على العبد، وإذا رضي الله على العبد وفّقه إلى عمل الطّاعة وترك المعصية.
فإذا كان العبد في رمضان قريبًا من الله بكثرة الطّاعات من صيام وصلاة وقراءة للقرآن وقيام اللّيل والتهجّد والصّدقات والزّكاة، والصّدقة وختم القرآن والدّعاء والذِّكر وتفطير الصّائم، وأنواع البرّ الّتي حصلت، وهذا شيء رائع وجميل، لكن الأجمل والأفضل هو المداومة على هذه الأعمال، يقول عليه الصّلاة والسّلام “أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ”. ولنتأمل موقف سيّدنا أبي بكر الصدّيق عندما مات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال رضي الله عنه: مَن كان يعبُد محمّد فإنّ محمّدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت. فمَن كان يعبد رمضان فإنّ رمضان انقضى، ومَن كان يعبد الله فإنّ الله موجود.
إنّ المحافظة على الطّاعات من صفات عباد الله المؤمنين، يقول تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} المعارج:70، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} المؤمنون:3. وإنّ من المهم أن يبقى الإنسان على حسن تعامله مع الآخرين بعد انتهاء شهر رمضان، كما كان عليه خلال الشّهر الفضيل، وأن يُحافظ الإنسان على علاقاته الأسرية مع بيته وأقاربه، وأن يستمرّ في العمل الصّالح وبرّ الوالدين، وأن يشعر الإنسان أنّه عبدً لله ليس مضطرًا وإنّما هو مَن اختار الإقبال على الله بمحض إرادته واختار عبادته ليس في شهر رمضان فقط، وإنّما في كلّ أشهر السنة.
وليعلم أنّ الأصل في العبادات والعادات الإسلامية أن لا تنقطع بعد انتهاء شهر رمضان، فينبغي أن تستمرّ بعد شهر رمضان، لأنّ محطات الأجر مستمرّة لا تنقطع مثل صيام رمضان وصيام الستة من شوال وصيام يومي الاثنين والخميس، وهذان اليومان ترفع بهما الأعمال إلى الله تعالى، فكيف إذا رُفعت وكان العبد صائمًا، وصوم الأيّام البيض الّتي فيها الخير والفضل الكبير لأنّه صيام تطوّع فيه تهذيب للنّفوس وغضّ للبَصر والابتعاد عن المحرّمات وتحصين للفرج وفوائد صحيّة كثيرة للمرضى.
ألاَ ولنحذر أن نهدم ما بنيناه أو نبدّد ما جمعنا من صالح الأعمال؛ متساهلين بأمر الملك العلاّم. وحذار بعد أن كنّا من عباده الطّائعين وحزبه المفلحين وأسبل علينا حلل العفو والغفران أن نكون من حربه وأهل معصيته ومن حزب الشّيطان؛ فنندم يوم المآل. قيل لبشر الحافي: إنّ قومًا يتعبّدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا، قال “بئس القوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان”، وقال الحسن البصري “لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت” ثمّ قرأ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحجر:99.
ولقد لاحظنا وشاهدنا وعشنا بعض الثّوابت الإيمانية في رمضان، والّتي لا ينبغي لمسلم صادق أن يتخلّى عنها بعد رمضان. ومن أعظمها: أن تحافظ على الصّلاة في جماعة كما كنتَ حريصًا أيّها الصّائم في رمضان، قال ربّنا جلّ جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} البقرة:238. وقراءة القرآن من الثّوابت الإيمانية الّتي لا يستغني عنها مؤمن بعد رمضان، وقد رأينا الصّائمين -ولله الحمد- في أشدّ الحرص على قراءة القرآن في رمضان، فمنهم مَن قرأ القرآن كلّه مرّة؛ ومنهم مَن قرأ القرآن كلّه مرّتين، بل ومنهم مَن قرأ القرآن كلّه ثلاث مرّات، ومنهم مَن زاد على ذلك، فلا تتخلّ عن القرآن بعد رمضان، ولا تضع المصحف في عزلته مرّة أخرى.
ومن الثّوابت الإيمانية الّتي لا غنى للمسلم عنها بعد رمضان: أن يكون دائم الذِّكر للرّحيم الرّحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة:152. وكذلك الإنفاق، فأنت ترى النّاس تقبل على الإنفاق والجود والبرّ في رمضان بيُسر وأريحية، فلا تتخلّ عن الإنفاق بعد رمضان ولو بالقليل، قال عزّ وجلّ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة:268. وأن تكون دائم التّوبة لله تعالى: فمَن منّا يستغني عن التّوبة بعد رمضان؟ من منّا يستغني عن الأوبة إلى الله مع كلّ نفس من أنفاس حياته؟ قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} النّور:31.