لذلك أحسن من قال :
إن لله عباداَ فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
وقال الإمام علي بن أبي طالب : إن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة ، ولكل واحدة منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل .
وقال الإمام علي أيضاً يصف الدنيا : الدنيا أولها عناء ، وآخرها فناء ، حلالها حساب ، وحرامها عقاب ، من صح فيها أمن ، ومن حرص ندم ، ومن استغنىفيها فُتِن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن سَاعَاهَا فتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن نظر إليها أعمته ، ومن نظر بها بَصَّرَتْهُ .
وقال بعض السلف : الهوى مطية الفتنة ، والدنيا دار المحنة فانزل عن الهوى تسلم ، وأعرض عن الدنيا تغنم ، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي ، ولا تفتنك دنياك بحسن العواري فمدة اللهو تنقطع ، وعارية الدهر ترجع ، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم ، وتكتسبه من المآثم .
وكان لقمان الحكيم يوصي ولده ، فيقول : يابني : إن الدنيا بحر عميق ، وقد غرق فيه ناس كثير ، فلتكن سفينتك فيها تقوى الله ، وبضاعتك فيها الإيمان بالله .
وروي أن معاذ بن جبل t لما حضرته الوفاة قال : انظروا هل أصبحنا ؟ فأُتي فقيل : لم تُصْبح ، حتى أتي في بعض ذلك ، فقيل له : لقد أصبحنا ، فقال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ، ثم قال : مرحباً بالموت : زائرٌ مُغَيَّب ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ ، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحبُّ الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر ، وقيام ليل الشتاء ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذكر .
وروى المُزَني قال : دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه ، فقلت له : كيف أصبحت ؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ، ولسوء عملي ملاقياً ، ولكأس المنية شارباً ، وعلى الله وارداً ، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها ، أم إلى النار فأعزيها ؟ ثم أنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرَّجَا مني بعفوك سُلَّمَا
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عَفْوٍ عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منه وتكرما .
وبكى أبو هريرة في مرضه فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعْدِ سفري وقلة زادي ، وإني أمسيتفي صعود على جنة أو نار لا أدري إلى أيتهما يُؤخذ بي .
وقال ميمون بن مهران : خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة ، فلما نظر إلى القبور بكى ، ثم أقبل عليَّ فقال : ياميمون : هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم ، أما تراهم صرعى قد حَلَّتْ بهم المَثُلاتُ واستحكم فيهم البلاء ، وأصاب الهوامُّ مقيلاً فيأبدانهم ؟ ثم بكى وقال : والله ما أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور ، وقد أَمِنَ من عذاب الله تعالى .
فالإنسان لكي ينجو من شر الدنيا عليه أن يتذكر الموت دائماً ، ففي تذكر الموت نجاة للإنسان ، لأن ذلك يساعده على ترك العادات السيئة والأخلاق الرزيلة ، وتذكر الموت يجعل الإنسان يتحرر من أسر الدنيا والشغف بها ، ويحثه على المسارعة إلى العمل الصالح ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله : ( أتاني جبريل فقال : يامحمد عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به ، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل ، وعزَّهُ استغناؤه عن الناس ) .
فالدنيا دار لا أمان فيها ولا استقرار ، مثلها مثل البحر ، فالبحر لا أمان له ، فقد يكون تارة هادئاً ، وتارة أخرى هائجاً . ولهذا كان لابد أن يقف الإنسان على خطورتها ، حتى لا يغتر بها ، ويقع في شباكها .