« والناس في الصلاة على مراتب خمسة:
① أحدها: مَرتبة الظالِم لنفسه، المُفَرِّط، وهو الذي انتقَص من وضوئها ومواقيتها، وحدودها وأركانها.
② الثاني: من يحافظ على مواقيتها وحدودها، وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكنه قد ضيَّع مُجاهدة نفسه بالوسوسة، فذهَب مع الوساوس والأفكار.
③ الثالث: مَن حافظ على حدودها وأركانها، وجاهَد نفسه في دفْع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمُجاهدة عدوِّه؛ لئلا يسرق صلاته، فهو في صلاةٍ وجهاد.
④ الرابع: من إذا قام إلى الصلاة أكمَل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرَق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها؛ لئلا يُضَيِّع منها شيئا، بل همُّه كله مصروفٌ إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها واتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
⑤ الخامس: من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكنْ مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرًا بقلبه إليه، مراقباً له، ممتلئاً من محبَّته وتعظيمه، كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّتْ تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حُجُبُها بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل، قرير العين به.
⊙ فالقسم الأول: معاقَبٌ، والثاني: محاسَبٌ، والثالث: مكَفَّرٌ عنه، والرابع: مُثابٌ، والخامس: مُقَرَّب؛ٌ لأن له نصيباً ممن جُعِلَتْ قُرَّة عينه في الصلاة، فمَن قَرَّتْ عينه بصلاته في الدنيا قَرَّتْ عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقَرَّت عينه - أيضاً - به في الدنيا، ومن قَرَّتْ عينه بالله قرت به كلُّ عين، ومَن لَم تَقَرَّ عينه بالله تعالى تقطَّعَتْ نفسه على الدنيا حسرات.
↢ وإنما يَتقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربِّه عز وجل إذا قهَر شهوْته وهواه، وإلاَّ فقلبٌ قد قهرتْه الشهوة، وأَسَره الهوى، ووجَد الشيطان فيه مقعداً تمكَّنَ فيه، كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟! »
["الوابل الصيِّب" لابن القيم: ص٤٩].