قسّمت الرأي العام الوطني إن جاز لنا تسميته بذلك، أو الشارع الجزائري إلى قسمين: قسم مؤيد لـ "الثورة" بكل تجلياتها وله في ذلك مبرراته وأسبابه وحججه، وقسم رافض لها ويعتبرها مؤامرة لتمزيق العالم العربي..
ورغم أن الجميع يتفق – أو يكاد – بأن ثمة في ليبيا وغيرها من "دول الاستبداد العربي" ما كان يدفع شعوبها إلى الثورة وإسقاط أنظمتها الديكتاتورية الفاسدة، ورغم نجاح الثورة في ليبيا، ورغم الانتكاسة المسجلة في مصر، والفوضى المنتشرة في ليبيا، والاقتتال في سوريا.. لا يزال كل طرف متمسكا برأيه قويا بحججه.
بين الثورة والمؤامرة
المؤيدون يعتبرون ذلك تطورا منطقيا للأشياء بعد زلزال الثورة الذي أطاح بالأنظمة الفاسدة.. فقد كان طبيعيا أن تحدث هزات ارتدادية، وتحاول شبكات النظام القديم أن تشن ثورة مضادة لاستعادة زمام الأمور كما حدث في مصر.. أما الرافضون فقد سعدوا كثيرا بما يسيل من دماء في سوريا، وما يحدث من فوضى في ليبيا لأن ذلك يدعم طرحهم بأن ما يحدث ليس ثورة بل مؤامرة أجنبية وقودها شعوب المنطقة تهدف إلى تدمير الوطن العربي..
والحقيقة أن ردة فعل الشارع الجزائري بل قل كل الشارع العربي طبيعية ومنتظرة بغض النظر عن الحجج أو المبررات التي يرفعها هذا الطرف أو ذاك.. لأن كل تحرك شعبي أو عسكري في أي بلد من البلدان أكان ثورة أو انقلابا، يكون له مؤيدون ومعارضون وإن بنسب متفاوتة، وتلك ظاهرة أثبتتها التجارب والأحداث التاريخية .. وعليه فإن ظهور مؤيدين ورافضين لما يسمى بثورات الربيع العربي والتغيير الذي أفرزته، رغم اتفاق الجميع على ضرورة التغيير، يدخل في منطق الأشياء..
.. من الثورة الفرنسية إلى الـ "يونيتا" !
و"الثورة المضادة" سواء كانت سياسية سلمية أو بالانقلاب، ليست بدعة جديدة فقد عرفتها البشرية على مر العصور والأزمنة، وإن تجلت بمفهومها السياسي بمنظريها (الإيرلندي إيدموند بيرك 1729-1797، والسويسري جاك مالي 1947- 1800، والفرنسي جوزيف دو ميستر 1753- 1821) ،وممارسيها الفرنسيين: فرانسوا دو مونتلوزيي 1755-1838ولويس دو بونالد 1754-1840 والقس جون سيفرين موري 1746-1817، عقب الثورة الفرنسية، وتجلى أكثر مع ما عرف بالحركة الوطنية المضادة للثورة خاصة مع حكومة فيشي..
وفي العصر الحديث مارستها الولايات المتحدة في أكثر من مكان لعل أبرزها في أنغولا بمعية إسرائيل ونظام جنوب إفريقيا العنصري بتسليح حركة الـ "يونيتا" بزعامة جوناس سافيمبي ودعمه في حربه الفاشلة ضد الحركة الشعبية لتحرير أنغولا الحاكمة في البلاد..(1975-2002)..ولم يسجل التاريخ أن نالت ثورة مضادة من ثورة شعبية إلا نادرا أو مؤقتا.. وإذا كانت الثورة المضادة قد نجحت في مصر في الإطاحة بالثورة عن طريق الانقلاب فليس ثمة ما يضمن للانقلاب نجاحه أو استمراره بدليل المقاومة الشعبية التي يواجهها يوميا رغم حملات التقتيل والاعتقالات والقمع والمحاكمات الجائرة..
والأحداث المتسارعة هذه الأيام في ليبيا تؤكد احتمال محاولات توسيع ظاهرة الثورة المضادة عن طريق الانقلاب لتطال محطة أخرى من محطات "الربيع العربي"، وذلك لإفشال مساعي التأسيس لنموذج ديمقراطي في بناء دولة ما بعد ظاهرة اللادولة التي أرساها القذافي، وفرض نظام حليف لأمريكا والغرب حتى لا تفلت ليبيا عن الرقابة كما فلتت مصر قبيل الانقلاب..
لكل ثورة "سيسِيُّها
قد يدعي الجنرال خليفة حفتر – الذي يقدم على أنه رجل أمريكا وسيسي ليبيا - أنه لا يسعى إلى تدبير انقلاب، لكن حركته تستوفي كل خصائص محاولة الانقلاب العسكري، تشكيل ما يسمى"الجيش الوطني الليبي"، وشن حرب بالأسلحة الثقيلة مدعومة بالطيران – وقد قيل انه طيران أجنبي- ضد بعض كتائب الثورة، تلبية كما يقول لنداء الشعب الليبي وحمايته ممن يصفهم بالإرهابيين، حرب خلفت لحد الآن زهاء ثمانين قتيلا وأكثر من مائة وأربعين جريحا....
حركة حفتر تسعى إلى انقلاب استباقي حتى لا تسفر العملية السياسية انتخاب سلطة نابعة من صلب الإرادة الشعبية قد تطرح إشكالا أمام أمريكا والغرب كما حدث في تونس ومصر.. وهذا ما يسقط إدعاءات أصحاب فكرة المؤامرة الغربية للإطاحة بالقذافي ومشاركة النايتو في حرب الثورة الليبية. ويفشل سعيهم إلى إخراج جديد لسيناريو "الثورة" بإعادة تركيب أحداث متزامنة والثورة ليس لها بالضرورة علاقة بها للوصول إلى الاستنتاج بأن الثورة كانت مؤامرة.. والحقيقة أن العامل الوحيد الذي خدم هذا الطرح الغريب هو أن إسقاط القذافي كان يخدم أكثر من جهة إضافة للثورة، وكان من مصلحة أكثر من جهة إضافة إلى مصلحة الشعب الليبي طبعا..
بشار.. أخف الأضرار
وهذا ما يظهر بجلاء في تطورات المشهد السوري، المشابه للمشهد الليبي، فلو كان الأمر يتلخص في المؤامرة ما الذي يمنع النايتو وأمريكا من التدخل لإسقاط بشار الأسد الذي قتل شعبه وعاث في الأرض فسادا رغم أنها كانت تتمنى سقوطه.. السر في ذلك معروف فالغرب استفاد من التجربة الليبية بالذات فترك الطرفين يقتتلان في حرب استنزاف قد تطول، ذلك لأن سقوط بشار يعني انتصار القوى الثورية التي تهيمن عليها التيار أو التيارات الإسلامية، وهذا ليس من مصلحة أمريكا وإسرائيل فبشار أهون، بل إن استمرار الاقتتال هو الوضع الأمثل بالنسبة إليهما..
تونس .. الثورة السباقة والمعلمة
الثورة التونسية وحدها تبقى نموذج الثورة السباقة والمعلمة، السباقة إلى التأسيس لثورة قوية، تملك القدرة على مقاومة مخاطر الثورة المضادة وتهديدات التعفين، ومعلمة في كيفية التعامل مع هزات ما بعد الثورة الارتدادية. نضوج حركة النهضة في تونس، وحكمة زعيمها ودهاؤه السياسي مكنها من التعامل بذكاء كبير لإسقاط كل محاولات الإطاحة بالثورة داخليا وخارجيا، وتفويت الفرصة على أعداء الثورة من النيل منها.. حركة النهضة رغم فوزها الكاسح في الانتخابات إلا أنها كانت مرنة في التعامل مع قوى الضد والرفض، وتنازلت تنازلات أثارت حفيظة حتى مناضليها حتى لا تمكن أي جهة منها..
قبلت في البداية تقاسم السلطة طواعية مع تيارات علمانية ويسارية، وحتى عندما هُيِّجت المعارضة، تعاملت بحكمة مع مطالبها رغم أنها كانت غير معقولة فتنازلت عن رئاسة الحكومة، وحتى عن الحقائب السيادية، وقبلت بحكومة تقنوقراطية وبذلك وضعت الثورة في منأى عن كل المؤامرات.. ولم تستسلم لمختلف الاستفزازات ومحاولة جرها إلى مستنقع العنف واتهامها بارتكاب اغتيالات سياسية. لقد دوخت مناوئيها فلم يجدوا إلى محاصرتها أو إدانتها سبيلا، أو التحريض ضدها داخليا وخارجيا.
اليمن.. واحتواء الثورة
أما في اليمن فقد تم احتواء الثورة قبل أن تصل إلى مداها.. أي أن الثورة المضادة تجلت في رداء الوساطة للتحكم في مآلاتها، فوجهتا الرعاية السعودية إلى أنصاف الحلول نصف ثورة ونصف استمرارية للنظام بتنحية عبدالله صالح، وتعيين نائبه منصور هادي.. وكان ذلك هو المخرج الذي قوضت به الثورة في اليمن..
كلمات دلالية :
الثورة المضادة