ولقد كان ﷺ يعرف أصحابه؛ ليست معرفة عابرة سطحية كتلك التي يتعارف بها الخلق اليوم ولكن معرفة حقيقية عميقة تدفعه لأن يتلمس حالهم ويدرك صفاتهم ويتذكر خصالهم ويطمئن عليهم وليكتمل مشهد حنان وود يليق بخاتم النبيين وسيد المرسلين. - "كن أبا خيثمة" - "كن أبا ذر" هكذا صاح يوم تبوك حين تأخر عن الركب أبو خيثمة وأبو ذر الغفاري؛ فظن البعض أنهما قد تخلفا مع من تخلف لكنه كان يعرفهما ويعلم حالهما ويحسن الظن بهما؛ ليس مثلهما يتخلف؛ لذلك لما تبدى في الأفق ظل يزول به السَّراب قالها بثقة العارف المستوثق. "كن أبا ذر"؛ "كن أبا خيثمة" وبالفعل كان أبا ذر؛ ثم كان أبا خيثمة.
حتى من لا يُعرف بين الناس ولا يأبه به أحد أو يعتني بحضوره أو غيابه؛ كان رسول الله يعرفه ويفتقده؛ ها هو يسأل مستفهما بعد إحدى الغزوات : "أتفقدون من أحد" - ما نفقد من أحد يا رسول الله - "ولكني أفقد جليبيبا" لم ينس ذلك الفقير الدميم الذي لا يعرفه كثير من الناس؛ بل يفتقده ويتلمس حاله ثم يبحث عنه حتى يجده مضرجا في دمائه وحوله سبعة من المشركين قد جندلهم بسيفه قبل أن يرزق الشهادة. وحين يجده يسارع إليه بلهفة حانية قائلا: "اللهم إن هذا مني وأنا منه؛ هذا منِّي وأنا منه؛ هذا منِّي وأنا منه" (رواه مسلم)؛ يقولُها مِرارًا ثم يضعه على ساعده المبارك ما له سريرٌ حينئذ إلَّا ذراعي النبي صلى الله عليه وسلّم. إنه حنان لم ينقطع حتى بعد الموت؛ تماما كما فعل مع عبد الله ذي البجاذين؛ ذلك الفقير الآخر الذي عرفه وأحبه وحنى عليه حيا وميتا فأصر أن يدفنه بيده الشريفة ومعه صاحباه يقول لهما بحنان جارف: "أدنيا مني أخاكما"؛ حتى إذا أسجى جسده قال : "اللهم إني أمسيت راضيا عنه، فارض عنه".
ما أطيبها من كلمات وما أشرفه من موقف تمنى من رواه أن يكون مكان ذي البجاذين لما رأى من حنانه به وحرصه عليه. حرص يدفع صاحبه للاطمئنان على حياة أصحابه ودقائق أحوالهم الاجتماعية.
لقد بلغت درجة حرصه أن يسأله عن تفاصيل ربما لا يهتم بها أحد؛ لكنه كان بمثابة الوالد الشفوق لأصحابه والوالد يعرف أبناءه.