وأَنْ لا يَقْتَصِرَ علَى ذلك في حالِ الشِّدَّةِ فقط، فَإِنَّ ذلكَ مِنْ أعظَمِ أَسْبابِ النجاةِ والسَّلامَةِ مِنَ الشُّرُورِ، واستِجابَةِ الدعاءِ عند الشدائِدِ والمصائبِ والكُرَب، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّه أن يَسْتَجيبَ اللهُ لهُ عِنْدَ الشدائِدِ والكُرَبِ فلْيُكْثِرْ الدُّعاءَ في الرَّخاء). وقد ذمَّ اللهُ في كِتابِهِ العزيز مَنْ لا يَلْجأونَ إِلَيْهِ ولا يُخْلِصُونَ لَهُ إلاَّ في حالِ شِدَّتِهِم، أَمَّا في حالِ رَخَائِهِم ويُسْرِهِم وسرَّائهم، فإنَّهم يُعْرِضُون وَيَنْسَونَ ما كانوا عَلَيه، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) ، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، تدلُّ على ذمِّ مَن لا يَعْرِفُ اللهَ إلاَّ في حالِ ضَرَّائه وشدَّته، أمَّا في حالِ رَخائِهِ فإنَّه يَكونُ في صُدُودٍ وإعراضٍ ولَهوٍ وغفلةٍ وعَدَمِ إقبالٍ على اللهِ. ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم أن يُقبلَ على الله في أحوالِه كلِّها في اليُسرِ والعُسرِ، والرخاءِ والشدِّةِ، والغِنَى والفقرِ، والصحةِ والمَرَضِ، ومَن تعرَّف على اللهِ في الرَّخاءِ عَرَفَهُ الله في الشِّدَّة، فكان له مُعِيناً وحافِظاً ومُؤيِّداً وناصِراً. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (صَنائِعُ المَعْروفِ تَقي مَصارِعَ السُّوء). وقال أيضاً: تعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَّة. فإذا رَحِمْتَ الصغيرَ والضَّعيفَ، وَاتَّصَفْتَ بِخُلُقِ الرَّحْمَة، وأطْعَمْتَ الجائعَ والمسكينَ، ونَصَرْتَ المَظْلُومَ، وَوَقَفْتَ مع المُسْلِمِ في كُرْبَتِه، وَعَفَوتَ عَمّنْ أخْطأَ في حَقِّكَ، فلا تَظُنُّ أَنَّ اللهَ سَيَتَخَلَّى عَنكَ عِنْدما تَمُرُّ بِكَ الشّدائِدِ، ولا تَظُنُّ أَنَّ اللهَ سَيُسَلِطُ عَلَيْكَ مَنْ لا يَرْحَمْ، وإذا اسْتَعْمَلْتَ جَوارِحَكَ في الطاعةِ والعِبادَة في الصِّغَرِ وَوَقْتَ الفُتُوَّةِ والشباب، وحَفِظْتَها عَنِ الحَرَامِ، حَفِظَكَ اللهُ وحَفِظَ لكَ جَوارِحَكَ وَقْتَ الشِّدَّة عِنْدَما تَحْتاجُ إلَيها فِي الكِبَرِ والضَّعْف.
وإِنَ مِنَ الشَّدائِدِ التي يَنْشُدُ المُسْلِمُ السلامَةَ مِنها: الفِتَنَ التي يَلْتَبِسُ فيها الحقُّ بالباطِل، وَيَخْفَى على كَثِيرٍ مِنَ الناسِ المَخْرَجُ مِنها، فلا ينْجو مِنها ويَثْبُتُ فيها إلا مَنْ رَحِمَ الله. فَمَنْ تَعَرَّفَ على اللهِ بِطاعَتِهِ، وَلَزِمَ القُرْآنَ والسُّنَّةَ وَمَنْهَجَ القُرونِ المُفَضَّلَةِ، وَصَدَرَ عَنْ رأيِ العُلماءِ وَتَجَرَّدَ عَن عاطِفَتِهِ وهواه، ثَبَتَهُ اللهُ، وأَنارَ طَريقَهُ، وحَماهُ مِنَ الفِتَنِ وَشُرُورِها.
وَمَنْ لَزِمَ سُنَّةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وشَرِبَ مِنْ مَعِينِها في الدنيا، شَرِبَ مِنْ حَوضِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ في الآخرة. ومَنْ ثَبَتَ على التوحيدِ والسُّنةِ في الدنيا، ثبَّت اللهُ قَدَمَهُ على الصِّراطِ الذي حَكَمَ اللهُ بِمُرورِ الناسِ عَلَيه، وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا . ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا. ومَنْ عَرَفَ اللهَ في الدنيا، وخافَ عِقابَه، أمَّنَهُ اللهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، عِنْدما يُحْشَرُ الناسُ حُفاةً عُراةً غُرْلاً غَيْرَ مَخْتُونِين، يَمُوجُ بَعضُهُم في بَعْض، قَدْ أُدْنِيَتِ الشمسُ مِنْهُم قَدْرَ مِيل، والعَرَقُ يُلْجِمُهُم، بَيْنَما هُوَ في ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه.