دُهش صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، لما رأوه يصعد المنبر، لقد شاهدوا حالة لا تحدث إلا نادراً!
يصعد عليه الصلاة والسلام درجة درجة ويقول: آمين، آمين، آمين، وكأنه صلى الله عليه وسلم يحدث نفسه، فأثار هذا التصرف فضول الصحابة الكرام، فسألوه -عليه الصلاة والسلام- عن سر ما فعل، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إن جبريلَ أتاني فقال: من أدركَ شهرَ رمضانَ، ولم يُغفرْ له، فدخلَ النارَ فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحَدَهُما فلم يَبَرَهُما فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، ومن ذُكِرتَ عنده، فلم يُصلِ عليكَ فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين» (أخرجه ابن حبان في صحيحه).
وفي حديث آخر في المعنى نفسِه، أخرجه الترمذيُ وغيرُه، بإسنادٍ جيدٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ».
ومعنى كلمة «رغِمَ» أي: لَصَقَ أنفُه بالتراب، وهذه كناية عن حصول غاية الذل والهوان، ومعناها الدعاء عليه، أو الإخبار عنه بلزوم الصغار والمهانة، لما فوته من أجور كبيرة على أعمال يسيرة كالتي وردت في الحديث.
وذكر المناوي في شرح الحديث: أن المقصود أي: ّرغِمَ أنفُ من علم أنه لو كف نفسه عن الشهوات شهرا في كل سنة، وأتى بما وُظِفَ له فيه من صيامٍ وقيام، غُفِرَ له ما سلف من الذنوب، فقصّرَ ولم يفعل حتى انسلخَ الشهرُ ومضى، فمن وجدَ فرصةً عظيمةً بأن قام فيه إيمانا واحتسابا، عظمه الله ومن لم يعظمه الله فهو أهل للاحتقار والمهانة جزاء تفريطه في ذلك الموسم الكثيرة خيراته العظيمة بركاته.
أيها الأحبة:
هل فطن العابثون اللاهون من أبناء المسلمين اليوم إلى خطورة ما هم فيه من غفلة ولغو في شهر المغفرة والرحمة والعتق من النيران؟!
ألا يعلم هؤلاء أن من فاتته مغفرة الله في هذا الشهر الكريم، فهو داخل في دعاء جبريل -عليه السلام- الآنف، ذلك الدعاء الذي أمّن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
إن بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة من نعم الله تعالى، فكم من مؤمل أن يصوم هذا الشهر ولم يتحقق أمله، فصار قبلَه إلى ظلمه القبر، فالحمد لله والشكر على منته الكبرى أن بلغنا رمضان، ونسأل الله العلي القدير أن يعيننا على ملء أوقاته بالطاعة والإنابة لننال الغفران، ونسأله سبحانه أن يرفع عن قلوبنا غشاء الغفلة والكسل والتفريط.
أيها الأحبة:
السعيدُ من اغتنم مواسم الشهور، والأيام، والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة من يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات.
فإياكم والغفلة، وإياكم والتكاسل عن فعل الطاعات والخيرات في هذا الشهر المبارك، فإن العمر قصير، فلا تقصروه بالغفلة، فإن الغفلة ضيعت عمرَ كثير من الناس، واستهلكت لياليهم وأيامهم، وحين ينزل الموت بساحة أحدهم يستذكر ما فرط فيه، فتكون حاله كما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.